الثلاثاء، 2 سبتمبر 2014

ليس عيباً أن تكون فقيراً





عيباً تكون فقيراً



ليس عيباً أن تكون فقيراً، فإنك ما افتقرت إلا بقدر الله، أو ما قدَّر الله عليك أن تكون فقيراً؟ أولا نؤمن بأنَّ مقادير الخلائق قد فُرغ منها قبل خلق السماوات والأرض، وخلق الخلق بخمسين ألف سنة؟ فأين العيب في ذلك؟!

يقول الوليد ابنُ الصحابي الجليل عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: دخلتُ على أبي وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي، فقال: يا بني، إنك لن تَطْعَمَ طعمَ الإيمان، ولن تبلغ حقَّ حقيقةِ العلم بالله - تبارك وتعالى -، حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، فقال له الوليد: يا أبتاه، فكيف لي أن أعلم ما خَيْرُ القدر وشرُّه؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ أولَ ما خلق الله- تبارك وتعالى - القلمُ، ثم قال: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة»، يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار. ليس عيباً أن تكون فقيراً؛ لأن الله هو الذي فاضل بين عباده في الرزق، لحكم عظيمة قد تخفى علينا. قال - تعالى -: وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ [النحل: 71]، وقال: قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ [سبأ: 36].

المال ليس بمعيار للتفاضل عند الله – تعالى - إنّ الناس يتفاضلون عند الله بالتقوى، لا بحسب، ولا بنسب، ولا بجاه، ولا بمكانة، ولا بمال، ولا بولد، ولا برئاسةٍ، فقط: إن أكرمك عند الله أتقاكم. ليس من العيب في شيء أن نكون - أخي وأختي - من الفقراء؛ لأن المال ليس بمعيار للتفاضل عند الله - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ».
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]، التقوى، ولا شيء سواها.
أوليس قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ»؟.

ما من عيبٍ في ذلك؛ لأن الفقر الحقيقي هو فقر القلب، وليس قلةَ المال، ولكننا في زمان انتكست فيه المفاهيم، وطغت الماديات، واستحوذت على الكثير منَّا استحواذ السبع الضاري على فريسته التي لا تملك من أمرها شيئاً! إن المرء لو جمع من الدنيا ما جمع قارونُ منها، ولم يقنع بما قسم الله له فهو فقير قد أتعب نفس. أيها الأكارم: عند ابن حبان في صحيحه سؤالٌ طرحه نبينا - صلى الله عليه وسلم - على أبي ذر - رضي الله عنه -.. قال - صلى الله عليه وسلم -: « يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى »؟ فقال أبو ذر - رضي الله عنه -: نعم يا رسول الله، فجاء السؤال الثاني: « فترى قلة المال هو الفقر»؟ قال: نعم يا رسول الله. فقال - صلى الله عليه وسلم -: « إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب ». الله أكبر.
إن المرء لو جمع من الدنيا ما جمع قارونُ منها، ولم يقنع بما قسم الله له فهو فقير قد أتعب نفسه، ونأى بها على موطن راحتها، فلم يعرف الشكر لقلبه سبيلاً؟ ولا الطمأنينة لنفسه طريقاً.

أين العيب في فقرنا وإن الفقير من أهل الجنة ليدخلها قبل الغني بأعوام طويلة؟ قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: « يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِ مِائَةِ عَامٍ».

هل تعلم أيها القارئ الكريم أنّ بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - تدور عليها ثلاثة أهلة في شهرين كاملين ولا توقد نار فيها؟ شهران ولا نار توقد للطبخ في بيوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! تحدث عائشة - رضي الله عنها - بذلك ابنَ أختها عروة، فلما سألها: ما كان يُعيشُكم؟ تجيب: الأسودان؛ التمر، والماء. أتمنى أن يرجع كل واحد منّا بهذا السؤال لنفسه: لو أنّ أحدنا حدث له ذلك في أسبوع كيف سيكون حاله؟ إن أفقر واحد منّا لا يمكن أن يبلغ به الحال مثل ما بلغ بنبينا - صلى الله عليه وسلم -.

قال أبو طَلْحَةَ - رضي الله عنه -: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْجُوعَ، وَرَفَعْنَا عَنْ بُطُونِنَا عَنْ حَجَرٍ حَجَرٍ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ حَجَرَيْنِ. إنّ أبا هريرة - رضي الله عنه - وعاء العلم - كان يتلوى من الجوع على الأرض، اسمعه وهو يحدث عن نفسه فيقول: " لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ? إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، فَيَجِيءُ الْجَائِي، فيضع رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي وَيُرَى أَنِّي مَجْنُونٌ، وَمَا بِي مِنْ جُنُونٍ، مَا بِي إِلَّا الْجُوعُ". وابن مسعود كان فقيراً تنفق زوجته عليه، وأهل الصفة من أفقر الناس، فما العيب في ذلك؟ يا أيها الفقراء، ختام كلمتي ببيان واجب، وعزاء: أما الواجب فأن نقنع بما قسم الله لنا. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنهما -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ».



ما الفقر بعيبٍ، إنما العيب أن يسخط الإنسان على قدر الله.
العيب أن ننظر إلى من فوقنا. العيب أن نتبرّم من حالنا ولا نشكر ربنا. العيب أن نأكل حراماً يهلكنا. العيب أن نتعرض لسؤال الناس ونريق ماء وجوهنا.



حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ. وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ».يا فقراء المسلمين: ليكن في بالكم أنّ الله إنْ حرمنا فقد أعطانا، وإن منعنا فقد حبانا، كم في المرضى بفشل الكُلى من ينظر إلى الماء وقد مُنع منه إلا بقدر ما يتناول به دواءه، وكم من الناس من كُتب عليه أن يلازم فراشه إلى موته، أسأل الله الشفاء لمرضى المسلمين. إنّ رجلاً من الأغنياء عدّد له الأطباء ما يجب أن يمتنع عن أكله في قائمة طويل ذيلها، مما سرّب الكآبة إلى نفسه، والحزن إلى قلبه، فقال: والله لو أجد من أُعطيه كلّ مالي على أن يُخلَّى بيني وبين ما تشتهيه نفسي لفعلت غير حانث! معشر الفقراء: أكثروا من حمد الله، فقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إذا قال العبد: الحمد لله كثيراً، قال الله - تعالى -: اكتبوا لعبدي رحمتي كثيراً».
أسأل الله أن يكفينا بحلاله عن حرامه، وأن يغنينا بفضله عمن سواه، وأن يفرج همّنا، ويقضي ديننا. وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * خطيب مسجد خالد بن الوليد بأركويت مربع (63).










ليس عيباً أن تكون فقيراً

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق