الحمدُ لله ربِّ العالمين ، وأشهد أنْ لا إلـٰه إلَّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله ؛ صلَّى الله وسلَّم عليه
وعلى آله وأصحابه أجمعين .
اللهم علِّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علَّمتنا ، وزدنا علمًا ، وأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
أمَّا بعدُ : فهذه وقفة مع آيةٍ من هذه الآيات الكريمات التي استمعنا إليها من آخر سورة الحشر ؛ وقفة مع قول الله عز وجل:
{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21] .
فهذا معاشر الكرام مثلٌ عظيم من الأمثال المضروبة في القرآن ، والله سبحانه وتعالى ضرب في القرآن أمثالا كثيرة
تزيد على الأربعين مثلًا ، جلُّها في بيان التوحيد وتقرير الإيمان وإبطال الشرك ، وهذا المثل الذي ضربه الله سبحانه وتعالى
في هذه الآية الكريمة مثلٌ عظيم جدًا دعانا الله جل وعلا للتفكر في مضامينه والتأمل في معانيه
{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
وما من شك أن التفكر في هذه الأمثال المضروبة في القرآن حياةٌ للقلوب ويقظةٌ لها من غفلتها ؛ لأن من شأن المثل أن يجعل
الأمور المعنوية بمثابة الأمور المحسوسة المشاهدة ، وهذا مثلٌ ضُرب لبيان قوة تأثير القرآن وأن القرآن فيه آياتٌ
محكمات ومواعظ مؤثرات وهدايات نافعات ، فيه تأثيرٌ عظيم على القلوب بيَّن الله جل وعلا قوة هذا التأثير وعِظمه بهذا
المثل قال : {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} ، والجبل معروف ؛ أصم صلب ، مع وصفه بذلك إلا أنه لو أُنزل القرآن على
جبل لتصدع من خشية الله { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ؛ فإذا كان هذا شأن الجبل
في قوة تأثير القرآن عليه وهو جبل أصم صلب لتصدع من خشية الله فما هي مصيبة قلب الإنسان ؟!
والإمام ابن القيم رحمه الله تعالى لما تحدث عن آية الله عز وجل في الجبال العظيمة وما فيها من دلالات باهرة على عظمة
خالقها وكمال مبدعها سبحانه وتعالى أشار إلى هذا المعنى وأن هذه الجبال من شأنها أنه لو أُنزل عليها القرآن لتصدعت
من خشية الله سبحانه وتعالى .
والواجب على المسلم أن يعتبر بهذا المثل ، وأن يتعظ ، وأن يعمل على أن يكون للقرآن أثر عليه وأثر على قلبه ، وأن يكون
القرآن مؤثرًا فيه ، وأن يكون متأثرا بهدايات القرآن ، وأن يتفقد نفسه فيما كان فيه من إخلال وتقصير في هذا الجانب العظيم .
وما من شكٍ معاشر الكرام أن هذا التأثر بالقرآن الكريم متوقف على حسن التدبر لآياته والتأمل في معانيه والعقل لدلالاته
لا أن يكون حظ الإنسان منه مجرد القراءة بل لابد من تأمل ، حتى وإن احتاج التأمل من المرء أن يقف مع آية واحدة يومًا
أو ليلة كاملة يقف ، لأن التأثر والانتفاع موقوف على حُسن التدبر ، والله سبحانه وتعالى إنما أنزل هذا الكتاب لتتدبر آياته كما
قال جل وعلا : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] ، وجاء في غيرما آية من كتاب الله
عز وجل الحث على تدبر القرآن والإنكار على من ضيَّع ذلك وفرط فيه وأهمله ، قال الله عز وجل : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ
كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82] ، وقال جل وعلا : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }
[محمد:24] .
وأخبر الله جل وعلا أن تدبر القرآن وتأمل معانيه أمنة للعبد من الضلال وسلامةٌ له من الباطل ، وتأمل هذا المعنى في
قول الله سبحانه : { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } [المؤمنون:66-68] أي لو أنهم تدبروا القول لما نكصوا على الأعقاب ولما كانوا من أهل الضلال
فتدبر القول الذي هو القرآن أمنة للعبد من الضلال وسلامة له من الغواية وحمايةٌ له من الباطل وحصنٌ له من كل شر
لكن هذه المعاني موقوفة على حُسن التدبر ، تدبر القول وتأمل معانيه ودلالاته وهداياته ، والاستشفاء بالقرآن كما قال الله
سبحانه: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ }[يونس:57] كما قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ
الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا }[الإسراء:82]
فالقرآن شفاء للصدور من أدوائها وأسقامها وأمراضها ، وهو شفاء للصدور من أمراض الشبهات وأمراض الشهوات
والقرآن فيه حل لكل المشكلات التي تعرض للإنسان والعقبات التي تقف في طريقه ، ولكن لا يصل المرء إلى ذلك ولا ينتفع
بهدايات القرآن الكريم إلا إذا وفق للتدبر والتأمل في معانيه ؛ قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }[الإسراء:9]
قال جل وعلا: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[المائدة:15-16]
كل هذه الآثار والثمار والجنى المبارك لهذا القرآن الكريم لا يُنال إلا بتدبر هذا القرآن وتأمل معانيه ثم ما يثمره هذا التدبر من
عمل بالقرآن .
وعليه فإن العبد في هذا المقام تجاه القرآن الكريم يحتاج
إلى إحسان مع القرآن في ثلاثة أبواب :
1. إحسان في القراءة .
2. وإحسان في الفهم .
3. وإحسان في العمل
لابد من الإحسان في هذه الأبواب الثلاثة ، والهجر للقرآن في قوله {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا }
[الفرقان:30]
يتناول هذه الجوانب الثلاثة كما فصل ذلك ابن القيم رحمه الله في بعض كتبه ، فالهجر قد يكون للتلاوة ، وقد يكون للتدبر
وقد يكون للعمل بالقرآن الكريم .
وعليه أيضا لا يكون العبد تاليًا للقرآن حق التلاوة إلا بهذه الأمور الثلاثة ؛ قال الله تعالى : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ
تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}[البقرة:121]
وقد بيَّن العلماء رحمهم الله تعالى أن تلاوة القرآن تشمل هذه الأمور الثلاثة بما في ذلك العمل ؛ فإن العمل بالقرآن
يعد تلاوة للقرآن ، إذا صليت وأحسنت في صلاتك ، وصمت وأحسنت في صيامك ، وحججت وأحسنت في حجك
وبررت والديك وأحسنت في برك ، وتصدقت وأحسنت في صدقتك هذه الأعمال كلها تعد تلاوة للقرآن ؛ لأن اتباع ما جاء به
القرآن من تلاوة القرآن ، فالعمل بالقرآن من التلاوة للقرآن ، والله سبحانه وتعالى يقول:{وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا}[الشمس:2]
أي تبعها ، فاتباع القرآن تلاوة له ، بل لا يكون تاليا للقرآن حقا حتى يعمل بالقرآن ويكون من أهل العمل بالقرآن
ولهذا في الحديث قال : ((يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ)) قيده بهذا القيد «الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ»
بمعنى أنه لا يكون من أهله إلا بالعمل بالقرآن ، ومن المعلوم أن العمل بالقرآن فرع عن التأمل والتدبر والفهم للقرآن الكريم
لا أن يكون حظ المرء من القرآن مجرد التلاوة وإقامة الحروف دون إقامة لحدود القرآن ، وقد قال الحسن البصري رحمه
الله تعالى : «أُنزل هذا القرآن ليُعمل به ، فاتخذ الناس قراءته عملا» ؛ جعلوا العمل بالقرآن هو قراءته فقط ، والقرآن أنزل ليُعمل
به لأن فيه هدايات وفيه إخراج من الظلمات وإرشاد إلى الحق والهدى وبيان للطاعات ، ولا يستقيم لعبد تحقيق ذلك إلا
إذا أحسن التدبر ثم أحسن أيضا العمل بهذا القرآن العظيم .
وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وبأنه الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا أجمعين من أهل القرآن
الذين هم أهل الله وخاصته ، وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وهمومنا وغمومنا ، وأن يذكِّرنا
منه ما نُسِّينا ، وأن يعلِّمنا منه ما جهلنا ، وأن يرزقنا الفقه في القرآن والتدبر للقرآن والعمل بالقرآن ، وأسأله جل وعلا أن
يصلح لنا أجمعين ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأن يصلح لنا آخرتنا التي فيها
معادنا ، وأن يجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، والموت راحة لنا من كل شر .
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم ولمشايخنا وولاة أمرنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء
منهم والأموات ، اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهم إنا نسألك حبك وحب
من يحبك والعمل الذي يقربنا إلى حبك ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى . اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول
بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا ، اللهم متعنا بأسماعنا
وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا في
ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا .
سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك .
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه .
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه .
كلمة للشيخ عبد الرزاق البدر
ألقيت في المدينة النبوية في 10-02-1436
- من الموقع الرسمي للشيخ -
للإستماع للكلمة من هنا :
http://ift.tt/12VCqdW
المصدر: .:: منتديات الوليد ::. - من قسم: مواضيع اسلامية دينية
ܓܨ تَأْثِيرُ الْقُرْآنِ فِي الْقُلُوب ܓܨ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق