بسم الله الرحمن الرحيم
الرؤيا:
مضت فترة على زواج النبي صلى الله عليه وسلم من «سودة» ثم استيقظ صبيحة يوم مسترجعًا في مخيلته ذكرى حلم رآه، فقد جاءه جبريل - عليه السلام - بقطعة قماش حريري عليها صورة «عائشة بنت أبي بكر» وقال له: «إنها زوجتك في الدنيا والآخرة».
فأخذ صلى الله عليه وسلم يفكر في أمر هذه الرؤيا.. ثم صرفه ذهنه عنها معتبرًا إياها أضغاث أحلام ولم يولها عنايته واهتمامه فقد كانت مشاغل الدعوة وأعباء الرسالة أكبر من هذا الخاطر العابر وأعظم منه، لكن الرؤيا تكررت ليومين على التوالي فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم أنها أمر من الله – سبحانه وتعالى -.. ولابد من تنفيذ أمر الله. ثم بكر – عليه الصلاة والسلام – إلى دار أبي بكر رضي الله عنه فاستقبله مرحبًا.
ولما استقر المقام بالنبي صلى الله عليه وسلم قص على أبي بكر رؤياه فأصغى رضي الله عنه وقد أدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاءه خاطبًا. ثم التفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «إنها ما زالت صغيرة يا رسول الله... وسأرسلها إليك لتراها».
ثم غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم دار أبي بكر، كانت السعادة والفرحة تغمران نفس الصديق فإنه لشرف عظيم ومنزلة سامية أن يصاهره النبي صلى الله عليه وسلم ثم دخل حرم أهله ونادى «عائشة» والتي كانت منهمكة في اللهو بدماها، ثم حملها إناء فيه تمر وطلب إليها أن توصله إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول له: «هذا كل ما عندتا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل يوافقك؟» فعل أبو بكر رضي الله عنه ذلك بعد أن أخبر زوجته أم رومان بالأمر وأخذ رأيها.
الخطبة:
أسرعت «عائشة» الطفلة الفتاة إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهشَّ لها وحياها، ثم قدمت له وعاء التمر الذي أرسلت به وقالت له ما علمها أبوها ثم عادت ثانية إلى والدها فسألها:
«ماذا قال يا بنية؟ أجابت: قال: نعم وعلى بركة الله»، لقد ذهبت «عائشة» إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم تنفيذًا لأمر أبيها وهي لا تدري من أمر هذه الزيارة شيئًا ولا الغاية منها، إذ كانت صغيرة في السن، ولا تدرك معها منطويات هذه الأمور وأهداف هذه التحركات وأبعادها ومراميها.
لقد ارتاحت نفس الصديق رضي الله عنه غاية الراحة وسر غاية السرور لجواب النبي صلى الله عليه وسلم وخطبت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت سبع سنين (على أصح الروايات) وبقي أمر هذه الخطبة مكتومًا لا يعلم به أحد سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وزوجته أم رومان وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير التردد على أبي بكر فيوصي بعائشة خيرًا؛ إذ كانت طفلة صغيرة لا تفقه من شئون الحياة إلا القليل وكانت مثل صديقاتها في سنها تقضي معظم أوقاتها لاهية لاعبة تأخذ دميتها في حجرها فتسرح لها شعرها أو تلبسها خرقًا تسميها ثيابًا أو تهدهدها لتغفو.
لقد وثقت هذه الخطبة أواصر المحبة والصداقة بين
رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه الحميم أبي بكر رضي الله عنه وزادتها متانة وقوة.
الزواج:
سنوات الكفاح والجلاد والجهاد حتى كانت الهجرة إلى المدينة وبعد أن استقرَّ المقام بالمسلمين فيها، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار وجمع بين الأوس والخزرج على طريق الإيمان والإسلام وعاهد يهود المدينة من بني قينقاع وبني النضير على التعايش بأمن وسلام لا يغدروا بالمسلمين ولا ينصروا عليهم عدوًا ولهم دينهم وشئون حياتهم الخاصة، بعد هذا كله جاءه أبو بكر الصديق رضي الله عنه مذكرًا يمشي على استحياء.. جاءه صلى الله عليه وسلم في ساعة من صفاء وراحة قائلاً: «ما الذي يمنعك أن تبني بأهلك يا رسول الله؟» فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وكأنه تنبه إلى نفسه وفكر في خطبته لعائشة التي مضت عليها سنوات فعائشة اليوم قد اكتملت أنوثة، وهي أصلح ما تكون لإتمام الزيجة فأجاب صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالإيجاب والابتسامة الرقيقة لا تفارق ثغره الشريف.
في بيت رسول الله:
دخلت عائشة – رضي الله عنها – بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحمل ضمن جهازها المتواضع جدًا الدمى!! إذ كانت رغم اكتمال أنوثتها ما تزال في سن مبكرة تغلب عليها السذاجة وطابع الطفولة.
فقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته يومًا فوجد عائشة قد صفَّت العرائس وجعلت لبعضها أجنحة فسألها «عما تصنع» فقالت: «إنهن خيول سليمان»، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاد يسألها: «وما هذه الأجنحة» فقالت: «ألم تكن لسليمان خيول ذات أجنحة يطرن بها؟» فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن ليتضايق منها أو يتألم أو يبدي ضجرًا أو اشمئزازًا ولكنه كان يرعاها رعاية الأب الحنون أو الوالد العطوف كيف لا؟ وهو نبي الرحمة وهو الذي يقول: «استوصوا بالنساء خيرًا»، وفي ذات يوم دخل الدار فرأى عائشة – رضي الله عنها – قد غلبها النوم والشاة تأكل الخبز الذي أعدته فتبسم من ذلك ثم أيقظها برفق وواساها حين أبدت ندمها وحزنها على ما فرطت وأهملت، لقد كان – عليه الصلاة والسلام – معلمًا عظيمًا وأبًا كريمًا وزوجًا وفيًا..
وبهذه الصفات التي حلاه ربه بها، والمبادئ التي بشر بها انتصر على الجهل فأيقظ العقول، وحطم الأوثان، وقضى على الشرك فمحا من القلوب ما ران عليها من أدران العبودية لغير الله تعالى.
الزوجة الوفية:
كبرت عائشة – رضي الله عنها – ونضجت واستوت عقلاً وفهمًا وإدراكًا فكانت سيدة بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ترعى شئونه وتدبر أموره وتواسيه حين تجب المواساة وتطيعه في توجيهاته وتحفظ عنه الكثير من أقواله وتتأسى بأفعاله وتقوم بأمور بيت الزوجية خير قيام، وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ذلك الفضل فكانت أحب نسائه إليه، وعرف فيها الذكاء والوفاء والوعي والفهم.
لكن عائشة – رضي الله عنها – لم تكن لتفارقها طباع النساء من غيرةٍ، فقد حدث مرة أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى الغزوات واصطحب معه من نسائه عائشة وحفصة وفي الطريق رأت حفصة كثرة اقتراب النبي صلى الله عليه وسلم من هودج عائشة يكلمها ويحدثها فخطر لها خاطر، فما أن ابتعد النبي صلى الله عليه وسلم عن هودج عائشة حتى اقتربت منها حفصة وأسرت إليها بكلام تضاحكتا بعده، ثم استبدلتا ركوبيهما عائشة في هودج حفصة وحفصة في هودج عائشة، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمها وهو لا يعلم أن حفصة بداخله فكلمته وحدثته على أنها عائشة، وعندما أقبل المساء وتوقف الركب عن المسير وقصد النبي صلى الله عليه وسلم خباء عائشة فوجئ بحفصة في داخله.. لكنه صلى الله عليه وسلم لم يبدِ انزعاجًا وقضى ليلته عندها وكانت ليلة ليلاء على عائشة التي حرمت من بركته صلى الله عليه وسلم وأضاعت فيها نصيبها وأرقت طوال ليلها ولم يعرف النوم سبيلاً إلى عينيها ولامت نفسها إن عادت لمثل ذلك.
الزوجة الغيور:
وفي ذات ليلة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البقيع حيث مدافن المسلمين وكثيرًا ما كان يخرج إليها ليلاً بعد صلاة الفجر يزور أهل البقيع ويسلم عليهم ويدعو للمؤمنين والمؤمنات ويتذكر الموت والآخرة. فاستفاقت عائشة فلم تجده بجوارها فقلقت وتحيرت في أمرها وظلت على حالها تلك حتى عاد الرسول صلى الله عليه وسلم ورأى ما هي عليه من الهم والأرق، فأنكر ذلك منها وقد ظنت أنه صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى إحدى نسائه غيرها، فقال لها: «إذًا فقد غلبك شيطانك يا عائشة!!» فسألته أي شيطان يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم لكل إنسان شيطان» فأردفت: وحتى أنت يا رسول الله!؟
فأجابها صلى الله عليه وسلم: «نعم ولكن الله – تعالى – أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير» بمعنى أنه استسلم ولم يعد له سلطان عليه أو بمعنى أسلم أي دخل الإسلام على قول بعض أهل العلم.
ولقد وصل حب النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة – رضي الله عنها – إلى جعل باقي نسائه – عليه الصلاة والسلام – تشتد غيرتهن منها وتدفعهن تلك الغيرة أن يرسلن فاطمة الزهراء – رضي الله عنها – إلى أبيها يطلبن العدل بينهن. فجاءت أباها تنقل إليه احتجاج أزواجه فغضب – عليه الصلاة والسلام – وأعرض عنها بوجهه مع حبه الشديد لها.. لكن فاطمة أعادت الحديث وكررت الطلب وكانت لها دلال على أبيها صلى الله عليه وسلم فقال لها:
«أو لست تحبين ما أحب؟» فردت بلى يا رسول الله... فقال لها:
«إذًا أحبي هذه» فسكتت فاطمة برهة أضاف بعدها صلى الله عليه وسلم قائلاً: «فليتقين الله في عائشة فوالله ما نزل عليَّ الوحي وأنا في فراش واحدة منهن غيرها».
يا نساء النبي:
وفتن الشيطان يومًا نساء النبي صلى الله عليه وسلم ووسوس إليهن أن يطلبن زيادة النفقة والتوسعة عليهن فغضب لذلك غضبًا شديدًا وأقسم أن لا يدخل بيوتهن شهرًا...! كما خيرهن بين متعة الحياة الدنيا وزخرفها وزينتها وبين العيش في كنف النبوة وظلال الرسالة. ولما آثرن البقاء بجانبه صلى الله عليه وسلم كان أول بيت دخله من بيوت أزواجه هو بيت عائشة وكان مما قالته يومئذ معتذرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «بأبي أنت وأمي يا رسول الله أفي هذا تخيرني؟ بل أختار الله ورسوله» وعاد الصفاء والود إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وانزاحت السحب والغيوم التي تلبدت في سمائه فترة من الزمن.
حديث الإفك:
ولقد كان حديث الإفك من أشد وأصعب ما واجهت عائشة – رضي الله عنها – في حياتها ومن أقسى ما تعرض له بيت النبوة إلى أن تنزلت آيات الله – تعالى – في سورة النور تكشف الغمة وتبددها.
فلقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم في جيش من المسلمين في المدينة إلى ديار بني المصطلق لتأديبهم ومعاقبتهم على ما كان منهم وكان سهم الخروج من نصيب عائشة من بين أزواجه. وحين تم النصر للمسلمين على بني المصطلق الذين لقوا جزاء غدرهم ونفاقهم ووزعت الغنائم والأسلاب وقد التقى عند حوض المساء كان يستقي من المسلمين أحد الأنصار وأحد المهاجرين فتزاحما وتنافرا وكاد خصامهما يؤدي إلى اشتباك بين المؤمنين. ومما زاد في تأجيج نار الفتنة ما قاله رأس المنافقين عبد الله بن أبي سلول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعز منها الأذل.
وسمع أحد المسلمين تلك المقالة وشهد الحادثة ومن ثم رأى بوادر الفتنة فأسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل له الخبر وما قاله ابن سلول فرأى – عليه الصلاة والسلام – أن من الحكمة أن يشغل الناس عن الفتنة بالمسير على الفور بعد أن أقاموا للاستراحة. في أثناء ذلك كانت عائشة قد خرجت من خبائها لقضاء حاجة بعيدًا عن معسكر المسلمين وهي لا تدري من أمر ما يحدث شيئًا وابتعدت كثيرًا وحين رحل المسلمون رفع هودجها من مكانه ظنًا من قائده أنها بداخله ومضى المسلمون في طريقهم إلى المدينة. عادت عائشة مما ذهبت إليه وافتقدت عقدًا كانت تزين به جيدها فلم تجده فرجعت سريعًا إلى حيث كانت ولملمت حبات العقد المتناثرة وعادت على جناح السرعة وحين بلغت طرف المعسكر ومكان الهودج لم تجد أثرًا لبشر فارتاعت وجزعت وألم بها خوف شديد ثم لبثت في مكانها لا تدري كيف تتصرف وماذا تفعل! وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد الظافر الخبير أن يرسل إثر كل غزوة رجلاً من أصحابه اسمه صفوان بن المعطل يستدرك ما فاته المسلمون عند رحيلهم، وفوجئت عائشة – رضي الله عنها – بخيال فارس يأتي حيث تقف فأرخت حجابها وعندما لمحها صفوان غض بصره وقال في دهشة وعجب!! ظعينة رسول الله؟ ما خلفك رحمك الله؟ وما الذي أخرجك؟ ثم نزل عن بعيره وتأخر حتى ركبت ثم تقدم وأمسك بالمقود وشغل بال رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة حتى عادت واطمئن عليها وسمع بعذرها وصدقها بعد أن افتقدها فلم يجدها واهتم لأمرها.
وكان عندما أطل موكب صفوان وعائشة على مداخل المدينة المنورة ولمحه ابن سلول المنافق الذي كان جالسًا مع بضعة نفر من أتباعه ووجد المادة التي يتسلى بها والسم الذي ينفث لينفس عن حقده وحسده لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين فقال: أيها الناس ظعينة نبيكم عادت في ركاب رجل والله ما نجت منه ولا نجا منها وسرت أكذوبة ابن سلول بين الناس مسرى النار في الهشيم وتناقلتها الألسنة تصريحًا وتلميحًا.
لكن عائشة – رضي الله عنها – دخلت منزلها خالية الذهن لا تدري من أمر هذا الإفك والافتراء شيئًَا ثم وصل الهمس إلى أذن رسول الله فعاش فترة من الحيرة والقلق والهم الشديد، يبدو ذلك على محياه الشريف ويظهر في تصرفاته وكانت عائشة تعلل تلك الظواهر في وجهه صلى الله عليه وسلم أو انصرافه عنها بسبب انشغاله بأمور الدعوة وشئون المسلمين، وحين استفحل الأمر وقد شعرت – رضي الله عنها – بالمرض يداهما استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تذهب إلى بيت أبيها كي تقوم أمها على خدمتها ورعايتها ولقي طلبها هذا سرعة استجابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما جعلها تحزن وتتوجس لأنه – عليه الصلام والسلام – لم يكن ليطيق فراقها أو ابتعادها عنه ودخلت عائشة منزل والدها الصديق الحزين رضي الله عنه الذي ما انفك يدعو الله – تعالى – أن يبرئ ساحة ابنته. وقضت في بيت أبي بكر رضي الله عنه قرابة العشرين يومًا حتى شفيت من مرضها.
وفي ليلة خرجت مع امرأة من ألأنصار ممن كن يزرنها لقضاء حاجة بعيدًا في الخلاء وبينما كن في الطريق عثرت المرأة بطرف ثوبها وكادت تسقط أرضًا فقالت: تعس «مسطح» فانتفضت عائشة وقالت بحدة وغضب: بئس لعمر الله ما قلت في رجل من المهاجرين ممن شهدوا بدرًا... فقالت المرأة: عجبًا وتدافعين عنه أو ما بلغك الخبر يا ابنة أبي بكر؟ فأجابت عائشة مستفسرة بدهشة: وما الخبر؟ فقصت عليها المرأة حديث الإفك وما يشاع عنها وما يروجه دعاة السوء من أقاويل وافتراءات. وكان مسطح بن أثاثة واحدًا من الذين أطلقوا لألسنتهم العنان ينالون به من شرف عائشة وسمعتها، ولما فرغت المرأة من الحديث كاد يغمى على عائشة فتماسكت وعادت إلى البيت تبكي وتنتحب وتلوم أمها لأنها كتمت عنها الخبر رأفة بها، وراحت الأم تخفف من حدة غضب «عائشة» والدموع تنهمر من عينيها فتغسل وجهها وتقول: أي بنية هوني عليك الشأن فوالله ما كانت امرأة حسناء عند زوج يحبها ولها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها لكن أين عائشة وأين أمها!!
لقد كانت في هم شديد، الدنيا كلها في نظرها مظلمة سوداء. فقبعت في الدار متوارية عن الناس عازفة عن الطعام والشراب لا تغفو ولا تنام تبكي وتنشج. ولم يكن سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم سكوت الصدق – معاذ الله – ولكن سكوت الصابر حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً. وحين كثر القيل والقال خطب في الناس فقال: «أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت منهم إلا خيرًا، ويقولون ذلك في رجل ما علمت منه إلا خيرًا وما يدخل بيتًا من بيوتي إلا وهو معي (يعني صفوان بن المعطل)» فسكت الناس جميعًا ثم أراد رسول الله أن يستشير خلصاءه في هذا الأمر وأصفياءه فاستدعى إليه ابن عمه علي بن أبي طالب وحبه أسامة بن زيد وسألهما رأيهما فقال أسامة: إنك لأعلم الناس بعائشة يا رسول الله وإن الناس لتكذب وما عرفت عنها إلا خيرًا، وأما علي فقال: يا رسول الله إن النساء كثيرات وإنك لقادر على أن تستخلف (أي تنجب الأبناء) وسل الجارية تصدقك.
فدعا رسول الله جاريتها ليسألها فتقول بريرة: والله ما أعلم إلا خيرًا وما كنت أعيب على عائشة شيئًا إلا أني كنت أعجن فآمرها أن تحفظه فتنام عنه فتأتي الشاة فتأكله!
وحين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: تسألني يا رسول الله عن عائشة وإني بدوري أسألك: من زوجك إياها؟
فأجاب رسول الله بهدوء: «الله تعالى».
فقال عمر: إذًا أفتظن أن الله قد خدعك ودلس عليك فيها؟ سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.
البراءة من السماء:
وفتر الوحي وتوقف مدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما جعل لألسنة السوء والفحشاء مجالاً وميدانًا فسيحًا...!
ولم يبق أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا المواجهة فعزم على الذهاب إلى دار أبي بكر رضي الله عنه وحين دخل – عليه الصلاة والسلام – إلى الدار كانت عائشة تبكي وبجوارها امرأة من الأنصار، فكفكفت دمعها ومسحت عينيها، ثم جلس رسول الله قبالتها يسألها: «يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتقي الله؛ فإن كنت قد قارفت سوءًا مما يقولون فتوبي إلى الله إن الله يقبل التوبة من عباده». ونزل القول على رأس عائشة نزول الصاعقة، فخيم الصمت الرهيب على المكان وشمل الجميع السكوت.. ولكن عائشة وحدها تكلمت ودموعها تدفقت من عينيها بغزارة، تكلمت لتدافع عن نفسها ثم نظرت إلى والديها وقالت صائحة صارخة: ألا تجيبان؟! فقالا: «والله ما ندري بماذا نجيب». فعادت إلى البكاء مع النشيج والنحيب، وقد تقطعت نياط قلبها حزنًا وألمًا ثم التفتت إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة: «والله، لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدًا والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس، والله يعلم أني بريئة لأقولن ما لم يكن، ولئن أنكرت ما يقولون لا يصدقوني، إنما أقول كما قال أبو يوسف (يعقوب - عليه السلام -) «فصبر جميل والله المستعان على ما يصفون»، ثم عاد السكون يلف المكان بردائه الشامل، وشعر رسول الله بأن الوحي يكاد ينزل عليه فسجى في ثوبه وأتته عائشة بوسادة من أدم وضعتها تحت رأسه وفزع الجميع إلا عائشة الطاهرة البرئية.
وحين استفاق -عليه الصلاة والسلام- من غشية الوحي وهو يتصبب عرقًا كالجمان قال: «أبشري يا عائشة قد أنزل الله براءتك...!» فصاحت والفرحة تغمر قلبها: «الحمد الله» ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: } إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ { [النور: 11-18].
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأشخاص الذين كانوا يروجون ويفترون ويقذفون فنالوا جزاءهم.
وعادت الطاهرة البريئة إلى بيتها وإلى مقامها في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى مكانتها الرفيعة في نفوس المسلمين جميعًا.
بعد رسول الله:
فتح المسلمون مكة وطهروا البيت الحرام من دنس الأوثان والأصنام وارتفعت كلمة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» مدوية في سماء الجزيرة العربية وبعد أن حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وتلا عليهم يومها قول الله تعالى: } الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا { [المائدة: 3] دمعت عينا أبي بكر رضي الله عنه - إذ شعر بقرب لحوق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى وانتقاله إلى جوار ربه.
في بيت عائشة:
وحين دهمت الحمى رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل نساءه مستأذنًا بكل ما كان يتمتع به من أدب النبوة أن يمرض في حجرة عائشة فأذِن له.
فقامت عائشة – رضي الله عنها – المُحبة الوفية بتمريضه صلى الله عليه وسلم والاعتناء به على خير ما يكون الحب والوفاء، وأوصى صلى الله عليه وسلم أن يدفن في حجرتها وهكذا كان. ولقد كانت – رضي الله عنها – أكثر نسائه وأهله حزنًا لفراقه وألمًا لبعاده وهي تذكر سالف أيامها معه وسنوات عمرها التي رافقته فيها. وتولى والدها أبو بكر خلافة المسلمين ثم تبعه عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما – والكل يعرف لها مكانتها ومنزلتها وفضلها وعلمها. فكم من قول وفعل كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عنها وسمع منها، وفي هذا نستطيع القول أن شطرًا وجانبًا هامًا من الأحكام الفقهية كان مصدره عائشة – رضي الله عنها – فهي الحافظة الراعية لخصوصيات البيت النبوي الشريف، ولما كانت خلافة الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وظهرت بوادر الفتنة مكشرة عن أنيابها كان بيت عائشة ذلك الحين ملتقى كبار الصحابة – رضوان الله عليهم – يعرضون عليها ما يرون وما يسمعون ويطلبون أن تدلي برأيها في الأمور كي يستقيم الحال وينضبط الوضع لكنها كانت تتردد خشية الدخول في باب لا تدري إلى أين ينتهي.
واستشهد عثمان رضي الله عنه وقتل ظلمًا وغدرًا ووقعت الواقعة وتولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخلافة، وحاول الأمويون عشيرة عثمان وأهله أن يتخذوا من استشهاده ذريعة للخلاف بينهم وبين علي والانتقاض عليه، يطالبونه بالاقتصاص الفوري من قتله عثمان ويؤخرهم في ذلك ريثما تهدأ أعاصير الفتنة ورياحها وجاء إلى عائشة من يوغر صدرها على علي ويذكرها بما قاله في شأنها يوم حادثة الإفك، وخرجت جموع من الناس فيهم الزبير بن العوام وولداه عبد الله وعروة وطلحة بن عبد الله يتهمونه بالتلكؤ في القصاص من قتلة عثمان، وبدأت محاولات للمصالحة وكادت المصالحة تتم حتى أن الزبير بن العوام غادر الميدان فعلاً، إلا أن سهمًا مجهول المصدر أصاب طلحة بن عبد الله فوقع رضي الله عنه شهيدًا، وسالت دماء المسلمين وحدثت موقعة «معركة الجمل»، حيث كانت عائشة – رضي الله عنها – تركب جملاً فسميت بهذا الاسم، وكان عليٌ رضي الله عنه وفاء منه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كريمًا فأكرم عائشة وحفظها من كل سوء. وأنزلها منزلاً مباركًا وأعادها مع أخيها محمد بن أبي بكر إلى المدينة معززة مصونة مكرمة محترمة.
الوفاة:
مرضت عائشة – رضي الله عنها – وكان قد سبقها إلى الدار الآخرة معظم نساء النبي صلى الله عليه وسلم ثم اشتد عليها المرض حتى فارقت الحياة الدنيا، جرى دفنها في البقيع وكانت وفاتها سنة ثمان وخمسين من الهجرة ليلة الثلاثاء السابع عشر من شهر رمضان على أرجح الأقوال.
وقد بلغت من العمر تسعة وستين عامًا وكان الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه ممن حضر جنازتها وبينما هو في طريق عودته من البقيع بعد الدفن وقد فاضت عيناه بالدموع كان يردد: رحم الله أم المؤمنين عائشة لقد كانت حياتها صفحة ناصعة شديدة النقاء بالغة الطهارة – رضي الله عنها وأرضاها – وأكرم نزلها ومثواها وألحقنا بها في الصالحين من عباده.
المصدر: .:: منتديات الوليد ::. - من قسم: قصص الصحابة و الصحابيات و الصالحين والتاريخ الاسلامي
أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق