إن القرآن الكريم هو حبل الله الممدود، فمن تمسك به هُدي ومن اعتصم به فاز، ولقد أوصانا الله بتلاوته وتدبره والعمل بأحكامه والتمسك بآدابه في أكثر من موضع منه. وفي هذا الدرس يذكر الشيخ الكثير من آداب التلاوة التي لابد من التأدب بها والعمل بمقتضاها. |
|
فضل تلاوة القرآن |
|
|
|
|
من آداب التلاوة: الإخلاص |
|
|
|
|
من آداب التلاوة: الطهارة |
|
|
من آداب تلاوة كتاب الله العزيز كذلك أن يتلوه على طهارة، ولا شك أن تلاوته على طهارة أفضل، وإن حصل الخلاف بين أهل العلم في حكم الطهارة لتلاوة القرآن ولمس المصحف، أما بالنسبة للتلاوة فلا شك أن مجرد التلاوة بدون مس المصحف لا يشترط لها الطهارة، بمعنى زوال الحدث الأصغر والأكبر معاً، وإنما إذا كان على جنابة لا يقرأ حتى يغتسل وعذره يزول، بخلاف عذر الحائض التي تمكث وقتاً لا تستطيع أن تزيل عذرها بيدها.
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني كرهتُ أن أذكر الله عز وجل إلا على طهرٍ) لاشك أن أعلى ما يُتطهر له هو كلام الله تعالى.
قال الجويني رحمه الله: "لكن تجوز القراءة للمحدث حدثاً أصغر؛ لأنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ مع الحدث)" لكن هذا الحديث ليس بمعروف، والذي ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه، ومن هنا قال بعض العلماء: ما دام أنه كان يذكر الله على كل أحيانه، فقراءة القرآن من ذكر الله.
ولذلك يرى بعضهم جواز قراءة القرآن للجنب، لكن الأحوط أن الجنب لا يقرأ القرآن، والأفضل أن يتطهر الإنسان لقراءة القرآن، والراجح للحائض أنه يجوز لها قراءة القرآن لكن دون مس المصحف، فإن احتاجت إلى مسه بخشبةٍ أو بقلمٍ أو بقفازٍ أو بخرقةٍ ونحو ذلك فلا مانع. |
|
|
من آداب التلاوة: التسوك |
|
|
|
|
من آداب التلاوة: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم |
|
|
كذلك من آداب تلاوة القرآن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن الله تعالى قال: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98].
ومعنى (إذا قرأت) أي: إذا أردت القراءة، قال بعض أهل العلم: يجب التعوذ عند قراءة القرآن لظاهر الأمر، وجمهور العلماء على استحباب ذلك، ومن أفضل الصيغ: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه) كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والاستعاذة ليست آية من القرآن، ولذلك لا ترتل ترتيلاً، وإنما تقال: بصوتٍ عال، فإذا بدأ يقرأ رتل الترتيل المعروف، وميَّز صوته بالتلاوة، ومن فوائد الجهر بالتعوذ: إظهار شعار القراءة، وأن السامع ينصت للقراءة ويعلم ماذا سيقوله القارئ وأن بعده قرآن.
قال ابن الجزري رحمه الله: المختار عند أئمة القراءة الجهر بها.
وقال بعضهم: يُسر بها.
وعلى أية حال، إذا تعوذ يُسمع نفسه.
وهنا مسألة: إذا كان جماعة في مقام التعليم يقرءون، فتعوذ الأول وقرأ ثم توقف ليقرأ الثاني، فلا يجب إعادة الاستعاذة، لأن القراءة هنا في حكم المتصلة، فلا يجب إعادة الاستعاذة من القارئ والثاني والثالث.. وهكذا. |
|
|
من آداب التلاوة: البسملة |
|
|
من آداب تلاوة القرآن كذلك البسملة؛ أن يحافظ على قراءة البسملة أول كل سورة غير براءة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف انقضاء السورة وابتداء السورة التي تليها بالبسملة، إلا في موضعٍ واحد وهو ما بين الأنفال وبراءة، فإن الصحابة تركوهما بغير بسملةٍ بينهما، لأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولم يبين لهم، هل براءة والأنفال سورة واحدة أم لا؟
فلو وضعوا البسملة صارت سورتين منفصلتين، وإذا لم يضعوا البسملة في بداية السورة توهم الناس أنهما سورة واحدة، فتركوهما بهذا الشكل الموجود الآن.
وكذلك بما أن البسملة آية فالسنة ألا تُوصل بما بعدها، فيستعيذ بالله ثم يتوقف، ثم يقرأ البسملة ويتوقف، ثم يشرع في قراءة الآيات أو السورة، وبما أن البسملة هي في بداية كل سورة، فإذا بدأ من وسط سورة، فإنه يكتفي بالاستعاذة. |
|
|
من آداب التلاوة: الترتيل |
|
|
|
|
من آداب التلاوة: تفخيم التلاوة |
|
|
ومن آداب تلاوة القرآن كذلك تفخيم التلاوة، ومعنى التفخيم: أي: أنه لا يقرأه بصوتٍ كصوت النساء إذا كان رجلاً مثلاً، وإنما يفخمه إذا كان رجلاً يقرأ كل شخصٍ بطبيعته، الرجل بطبيعته، والمرأة بطبيعتها، وإنما المقصود أنه لا يتشبه بالنساء، أو بميوعة في الكلام عند تلاوته، وممن ذكر ذلك الزركشي رحمه الله في كتابه البرهان. |
|
|
من آداب التلاوة: الاجتماع لمدارسة القرآن |
|
|
ومما يتعلق كذلك بآداب التلاوة الاجتماع لتلاوته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) فالاجتماع لتلاوة القرآن ومدارسته من السنن والمستحبات العظيمة، ولا يعني قوله: (يتلون كتاب الله) أي: يتلونه بصوت واحد، كما لا يعني قوله: (يتلون كتاب الله) أي: كل واحد يقرأ وراء الآخر مقطع مقطع، كما يفعل كثيرٌ من الناس، لأنه قد ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم، أنهم كانوا إذا جلسوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ ويستمع الباقون.
أما طريقة الإدارة في التلاوة، أي: أن يقرأ كل واحد مقطع ثم يقرأ الآخر فهذه طريقةٌ مكروهة، وبعضهم يقول: مبتدعة إلا في مقام التعليم، أي: التعليم عند شيخ يأمر شخصاً أن يقرأ ثم يأمر الآخر.. وهكذا.. الثالث والرابع في التحفيظ مثلاً يسمع الأول ثم الثاني ثم الثالث، لكن إذا اجتمعوا مجموعة في المسجد أو في غيره، ما هي السنة؟ أمروا واحداً منهم أن يقرأ، مثل أن يكون أنداهم صوتاً، أو أفضلهم قراءةً، والباقون يستمعون. |
|
|
من آداب التلاوة: تحسين الصوت بالقراءة |
|
|
|
|
من آداب التلاوة: عدم الجهر بالقراءة على الآخرين |
|
|
|
|
من آداب التلاوة: قطع القراءة عند النعاس والتثاؤب |
|
|
|
|
من آداب التلاوة: الاعتناء بالسور التي لها فضل |
|
|
|
|
من آداب التلاوة: عدم القراءة في الركوع أو السجود |
|
|
|
|
من آداب التلاوة: الصبر على الصعوبة في القراءة |
|
|
وكذلك من آداب التلاوة أن يصبر الشخص الذي يجد صعوبةً في التلاوة عليها، مثل العامي الذي يتعب في القراءة؛ لأنه لم يدرس ذلك أو لم تتهيأ له الفرصة لذلك، أو الشخص الذي في لسانه شيء، أو في تركيبة أسنانه شيء، قد يكون يشق عليه القراءة فيصبر على ذلك وأجره عظيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ وهو عليه شاق له أجران) فلو صبر على هذه المشقة وحاول أن يتعلم ما استطاع فلا شك أنه يؤجر أجراً عظيماً. |
|
|
من آداب التلاوة: ألا يقرأ القرآن في أقل من ثلاثة أيام |
|
|
ومن آداب تلاوة القرآن ألا يقرأ القرآن في أقل من ثلاثة أيام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث) كما روى ذلك أبو داود والترمذي وابن ماجة، عن ابن عمر مرفوعاً.
لكن قد يبحث الإنسان عن دليل معين، فيستعرض القرآن في ذهنه استعراضاً، كما فعل الشافعي رحمه الله فقد استعرض القرآن كله في ليلة يبحث عن دليل الإجماع، فهذا لا يسمى تلاوة وبالتالي نطبق عليه أحكام التلاوة، وآداب التلاوة، فنقول: لابد من الترتيل ونحو ذلك.
وإنما هذا استعراض يستعرضه في ذهنه يبحث عن شيءٍ معين، فتمر الآيات بسرعة في مخيلته، ولذلك لو أنه لم يحرك لسانه ولم يجرِ النفس لا تعتبر قراءة، ولا يؤجر عليها أجر القراءة، كما يفعل بعض الناس خطأً في الصلاة، فإنهم يطبقون شفاههم، ولا يحركون ألسنتهم، ولا يجري النفس بالقراءة ولا يُسمع نفسه، فهذه الحالة لا تعتبر قراءة، ولا يعتبر أنه قرأ الفاتحة، وهذا استعرض الفاتحة في ذهنه استعراضاً فقط.
على آي حال: إذا حصل شيءٌ من أجل استعراض أو من أجل مراجعة حفظ معين لشيءٍ معين، فلا ينطبق عليه النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث. |
|
|
من آداب التلاوة: البكاء عند تلاوة القرآن الكريم |
|
|
وكذلك من آداب التلاوة البكاء عند تلاوة القرآن الكريم، لأن الله قال: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:109]؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر ابن مسعود أن يقرأ عليه التفت إليه ابن مسعود فإذا عيناه تذرفان عليه الصلاة والسلام، والبكاء عند قراءة القرآن لا شك أنه دليل الخشوع إذا كان بكاءً صادقاً.
فإن البكاء على أنواع:
1- منه ما يكون بكاء رحمة ورقة.
2- ومنه ما يكون بكاء خوف وخشية.
3- ومنه ما يكون بكاء محبة وشوق.
4- ومنه ما يكون بكاء فرح وسرور.
5- ومنه ما يكون بكاء حزن وجزع.
فالبكاء المطلوب عند تلاوة القرآن هو بكاء الخشوع وليس بكاء النفاق، وليس البكاء المستعار، أما التباكي فهو تكلف البكاء، وقد جاء في حديثٍ: (إن لم تبكوا فتباكوا) ولكن الحديث ضعفه الشيخ ناصر ، وذكر الشيخ عبد العزيز بن باز في بعض فتاويه أنه لا يعرف صحته، والحديث رواه أحمد وغيره، فالبكاء عرفنا دليله من الكتاب والسنة، وعرفنا أن البكاء عند قراءة القرآن يكون بكاء خشوع وليس بكاء نفاق، مثل التظاهر بالبكاء لأجل أن يقول الناس عنه: إنه خاشع، وإنما هو بكاء خشوع، لو سمعه الشخص ارتاح إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن الذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله) رواهابن ماجة، وهو حديثٌ صحيح.
أما بالنسبة للتباكي فإنه ينقسم إلى: تباكي محمود، وتباكي مذموم:
- التباكي المحمود: هو الذي يستجلب رقة القلب وخشية الله، وليس تباكي الرياء والسمعة، مثلما قال عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسرى بدرٍ: (أخبرني ما يبكيك يا رسول الله، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما) ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هناك عبارة وردت في كلام بعض السلف: "ابكوا من خشية الله، فإن لم تبكوا فتباكوا".
- أما التباكي المذموم: هو الذي يجلب ويستجلب به حمد الخلق وثناءهم عليه، فيتظاهر بالبكاء أمام الناس، فهذا تباكي نفاق.
كما أن هناك بكاء نفاق وهناك تباكي نفاق، ولابد من شيء من التفصيل في موضوع البكاء عند تلاوة القرآن الكريم، أو عند سماعه.
لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبكي عند تلاوة القرآن وليس يعني ذلك أنه كان يبكي دائماً، لكن كان يعرض له البكاء عند تلاوة القرآن وعند سماعه، كما جاء في الحديث الصحيح، وقال الصحابي: (أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولجوفه أزيزٌ كأزيز المرجل) أي: يبكي؛ لأن الأزيز هو صوت البكاء، ولكنه يخرج من الجوف، فهو صوتٌ مكتوم، والمرجل: الإناء الذي يُغلى فيه الماء، فكيف يكون صوت الإناء الذي يغلى فيه الماء؟! فهكذا كان صوته عليه الصلاة والسلام وهو يصلي ويقرأ القرآن، فيجيش جوفه عليه الصلاة والسلام ويغلي من البكاء من خشية الله تعالى.
والصحابة رضوان الله عليهم ثبت كذلك عنهم أنهم كانوا يبكون عند قراءة القرآن الكريم، وقصة أبي بكر معلومة في مرض وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، قالت عائشة: [إنه رجلٌ رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء]، وفي رواية: [إن أبا بكر رجلٌ أسيف، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس] وكذلك عندما كان في مكة يُصلي بفناء داره ويجتمع إليه نساء المشركين وأبناؤهم، وكان رجلاً بكاءً لا يملك دمعة رضي الله عنه.
وعمر بن الخطاب سمع نشيجه من وراء الصفوف، لما قرأ قوله تعالى في سورة يوسف: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] حتى سالت دموعه على ترقوته، وكذلك فإنه بكى مرةً بدير راهب ناداه: [يا راهب! فأشرف، فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فقيل له: يا أمير المؤمنين! ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول الله عز وجل في كتابه: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً [الغاشية:3-4]] أناس يشتغلون ويعملون ويجدون ولكن لهم النار، لأن منهجهم ضلال وكفر، ومجتهدين في شرك أو في بدعة.
وكذلك فإن عمر قد كتب إلى رجل سمع أنه يشرب الخمرَ فكتب إليه: من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان، فسلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير، ولما بلغ الرجل كتاب عمر جعل يقرأ ويردد، ويقول: غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، قد حذرني عقوبته، ووعدني أن يغفر لي، فلم يزل يرددها على نفسه، ثم بكى ونزع مما كان فيه من شرب الخمر.
وعائشة رضي الله عنها مرَّ عليها القاسم وهي تقرأ: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] ترددها وتبكي وتدعو.
وعبد الله بن عباس لما قرأ: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] جعل يرتل ويكثر النشيج.
وهذا عبد الله بن عمر ما يقرأ قول الله: عز وجلa= 6000290>وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] إلا كان يبكي، وكذلك قال نافع عنه في قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16].
المهم أن الصحابة بكى عدد منهم في عدد من المواقف.
إذاً: البكاء ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكذلك عن التابعين، فكان عمر بن عبد العزيز ، مرة يقرأ قول الله: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة:4-5] بكى.
وكذلك: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى [الليل:14]، وكذلك في آية: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ [الصافات:24].. وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً [الفرقان:13].
الفضيل بن عياض وابنه علي وغيرهم من علماء السلف وزُهّادهم كانوا يـبكون عند قراءة القرآن الكريم، وحتى النساء كما ذكرنا عائشة رضي الله عنها.
لكن هل البكاء يصل إلى درجة الصياح والصراخ؟!
الجواب: أبداً، ولذلك فإن مسألة الصياح والصعق الموجودة عند الصوفية، لا شك أنها من البدع.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وما يحصل عند السماع والذكر المشروع من وجل القلب، ودمع العين، واقشعرار الجسوم، فهذا أفضل الأحوال التي نطق بها الكتاب والسنة.
أما الاضطراب الشديد والغشي والموت والصيحات، فهذا إن كان صاحبه مغلوباً عليه لم يُلم عليه، مغلوب: أي: حدث غصباً عنه وهو لم يقصد ذلك ولم يتكلف؛ لم يُلم عليه، كما قد يكون في التابعين ومن بعدهم، فإن منشأه قوة الوارد على القلب مع ضعف القلب، والقوة، أي: يكون الوارد عليه في الآية فيها معانٍ عظيمة لم تتحملها نفسه، قلبه أضعف أن يتحملها، أو يمكن أن يموت أو يغشى عليه.
والصحابة كان الوارد والمحل عندهم قوياً، ولذلك لم ينقل عنهم أن واحداً منهم مات أو صعق، وإنما التعليل لمن جاء بعدهم من الصالحين الذي كان يغشى على الواحد منهم أو يموت، سببه أن الوارد أقوى من المحل، فيرد وارد قوي على محل فيه ضعف أو أضعف من الوارد، فيحدث ما يحدث من الصعق أو الموت.
وسُئل الشيخ عبد العزيز بن باز نفع الله بعلمه عن ظاهرة ارتفاع الأصوات بالبكاء؟
فأجاب: لقد نصحت كثيراً من اتصل بي بالحذر من هذا الشيء، وأنه لا ينبغي؛ لأن هذا يؤذي الناس ويشق عليهم، ويشوش على المصلين وعلى القارئ.
وبالفعل في بعض المساجد في رمضان يكون الوضع مزعجاً جداً، حيث أن بعض الناس لا يستطيع أن يفهم قراءة القرآن من الإمام، ولا يسمع صوته من زعيق وصياح بعض الناس، وهذا ليس من الخشوع في شيء، وليس من طريقة النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة، بل كان بكاؤه عليه الصلاة والسلام بكاءً مكتوماً ما كان صياحاً وزعيقاً.
قال: فالذي ينبغي للمؤمن أن يحرص على ألا يسمع صوته بالبكاء، وليحذر من الرياء، فإن الشيطان قد يجره إلى الرياء، فينبغي له ألا يشوش على المصلين بصوته، ومعلومٌ أن بعض الناس ليس ذلك باختياره؛ بل يغلب عليه من غير قصد، وهذا معفوٌ عنه إذا كان بغير اختياره، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأ يكون لصدره أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء، وجاء في قصة أبي بكر أنه كان إذا قرأ لا يُسْمِع الناس من البكاء.. إلى آخره، ولكن هذا ليس معناه أنه يتعمد رفع صوته بالبكاء، وإنما شيء يغلب عليه من خشية الله عز وجل.
وكذلك سُئل الشيخ عن التباكي؟
فأجاب: ورد في بعض الأحاديث: ( إن لم تبكوا فتباكوا ) ولكن لا أعلم صحته، وقد رواه أحمد إلا إنه مشهورٌ على ألسنة العلماء، لكن يحتاج إلى مزيد عناية، والأظهر أنه لا يتكلف، بل إذا حصل بكاءُ فليجاهد نفسه على ألا يزعج الناس، بل يكون بكاءً خفيفاً ليس فيه إزعاجٌ لأحد حسب الطاقة والإمكان، هذا ما يتعلق بموضوع البكاء. |
|
|
من آداب التلاوة: التلاوة بين الجهر والإسرار |
|
|
ومن آداب التلاوة: التلاوة بين الجهر والإسرار، أما قضية الجهر بالقرآن فقد ورد فيه أحاديث، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين : (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيٍ حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به) ومن الجهة الأخرى ورد قوله صلى الله عليه وسلم: (الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة).
فكيف نجمع إذاً بين مدح الجهر الوارد في حديث الصحيحين ، وبين مدح الإسرار الوارد في حديث الترمذيوأبي داود والنسائي؟
قال النووي رحمه الله:
الجمع بينهما أن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى المصلون؛ كالداخلين إلى المسجد ليصلوا تحية المسجد أو السنة الراتبة ورجل يقرأ القرآن، فإذا جهر هذا الذي يقرأ لبَّس على المصلين بجهره، فيكون الإسرار أفضل.
إذاً: حيث خاف الرياء يُسر، أو تأذى غيره بجهره فيسر، والجهر أفضل في غير ذلك؛ لأن العمل فيه أكثر، ففيه رفع للصوت، وبذل للطاقة والجهد، ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويصرف سمعه إليه، أي: القارئ ذاته يستفيد ويركز أكثر، وإذا رفع صوته يكون أجمع لقلبه على القراءة، وأبعد للشيطان، ويطرد النوم، ويزيد في النشاط.
أما إذا وصل إلى درجة الإزعاج والتشويش، فإنه ينطبق عليه ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن كلكم مناجٍ لربه، فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعضٍ في القراءة)، وقد يجهر الإنسان فترة ثم يتعب فيخفض صوته ثم يجهر مرةً أخرى إذا تنشط فهذا لا حرج فيه.
كما إذا واصل القراءة لساعة أو ساعتين، فقد يجهر ثم يتعب فيخفض صوته، ثم يجهر فهذا لا بأس به أيضاً، وكان أبو بكر يُسر وعمر يجهر، فسئل عمر فقال: (أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان) أي: النعسان، فأمر أبو بكرأن يرفع شيئاً ما، وأمر عمر أن يُخفض شيء ما، فإذا خشي الرياء أسر ولا شك، وإذا كان يعلم أو يريد أن يقتدي به الآخرون -مثلاً - فلا شك أنه إذا جهر ودعا الناس للعمل، أي: بالقدوة إلى القراءة، فإن هذا المقصد الشرعي منه يؤجر عليه. |
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق